
سأستعرض في هذه المقالة تصوري الشخصي لما يمكن أن يكون مسوّدة خارطة طريق للنهضة الصناعية العربية. وهذه الخارطة المقترحة هي حصيلة سنوات من التأملات في موضوع لطالما أرّقني منذ أن كنت طفلاً. كما أن هذه التأملات والخواطر هي نتيجة خبرة مهنية في مجال الهندسة الميكانيكية امتدت لأكثر من ثماني عشرة سنة، في عدة بلاد عربية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ألمانيا، بالإضافة إلى زياراتي العلمية إلى اليابان. وما أقترحه هنا، قائم على محاكاة التجارب الناجحة ولا سيما التجربتين اليابانية والألمانية. ولقد قسّمت خارطة النهضة هذه الى أربع مراحل، كما يلي

المرحلة الأولى
تحديد أو اختيار المنتجات ذات القيمة الاقتصادية العالية بالنسبة للدولة. فالمنتج هو البداية والنهاية في هذه النهضة. فإن لم يكن لدينا منتج فماذا سنقدم للعالم؟ فعندما تفكر في اليابان فأول ما يخطر ببالك هو “تويوتا” و”سوني”. أما ألمانيا فسيكون “مرسيدس”، وبالنسبة لأمريكا فالطائرات والإنترنت، ويمكن قياس ذلك على غيرها من الدول المتقدمة صناعياً. فالخطوة الأولى إذاً هي تحديد المنتجات التي نريد أن نمتلكها وأن نقدمها للعالم. ويجب أن تكون هذه المنتجات ذات قيمة بالنسبة للدولة المنتجة حتى تضمن العائد الربحي الذي يكفل استمرارها
فعلى سبيل المثال إذا كانت الدولة تتوفر فيها الطاقة الشمسية بكثرة فإن صناعة الألواح الشمسية قد تكون أحد الاقتراحات المناسبة. وإذا كانت التركيبة السكانية للدولة فيها نسبة الشباب أعلى من نسبة كبار السن فيجب التفكير بمنتجات تتعلق بالشباب مثل المعدات الرياضية أو وسائل الترفيه. ولقد اعتمدت اليابان على صناعة الغزل والنسيج وعملت على تطويرها وذلك بسبب وفرة المواد الخام فيها. فيجب أن يتم اختيار المنتجات بعناية، بحيث يتم مراعاة ثروات الدولة، وعاداتها، وقيمها، واحتياجاتها. وللعلم فأنني لا أقصد بالمنتجات تلك الملموسة فقط، بل أقصد أيضاً البرمجيات
ومن المنطقي البدء بالصناعات الصغيرة والمتوسطة وذلك من باب التدرج في طريق النهضة الصناعية. فما الفائدة من تصنيع السيارات إذا كنا سنستورد كل قطعها من الخارج؟ إذ سيكون حينها هامش الربح دون المطلوب. فبالرغم من أن شركات تصنيع السيارات وحتى الطائرات تقوم على التجميع، إلا أنه يجب التزود بالمحركات والأنظمة الأخرى المختلفة من موّردين محليين أو على الأقل من ضمن نفس المجموعة الصناعية. فمثلا، يتوزع الموّردون في تصنيع طائرات “إيرباص” في أنحاء مختلفة من الاتحاد الأوروبي
المرحلة الثانية
تقليد المنتجات المنافسة. وحقيقة الأمر إن هذا تماما هو ما اعتمدت عليه كل من اليابان، وألمانيا، والصين، وكوريا الجنوبية على سبيل المثال لا الحصر. بدأت اليابان بتقليد المنتجات الأمريكية، فقامت مثلا بتفكيك قطار أمريكي بمجرد الحصول عليه وذلك لتقوم بتقليده وصناعة نسخ شبيهة منه، كما ورد في تقرير “الخلفية التاريخية لنقل التكنولوجيا والتغيير والتطور في اليابان” لتاكيشي هاياشي والذي قام بترجمته والتعليق عليه الدكتور محمود محمد سفر. واعتمدت شركة تويوتا على تقليد سيارات فورد التي كانت الأولى عالميا في ذلك الوقت. ومن الجدير بالذكر، أن التقليد لا يعتبر منقصة بأي شكل من الأشكال. على العكس يجب النظر إليه على أنه تحدٍ وخطوة استراتيجية في طريق النجاح. وكما يقولون في المثل الإنجليزي “لا حاجة لنا لإعادة اختراع العجلة”. وتبدو اليوم الفرصة سانحة أكثر مما كان في الماضي للقيام بالاستفادة من التكنولوجيا المستوردة أو ما يعرف أيضا باسم الهندسة العكسية، وذلك بسبب توفر وسائل الاتصال الحديثة، وسهولة الحصول على المعلومة، وتوفر الطابعات الثلاثية الأبعاد
المرحلة الثالثة
تحقيق الميزة التنافسية على منتجات الدول الأخرى. لابد من تحقيق ميزة تنافسية على المنتجات الأخرى التي في السوق. فهو صراع بقاء وما يهم المشترين بالدرجة الأولى هو جودة المنتج. ولقد فهم اليابانيون ذلك جيدا وأضافوا عليه مبدأ أو فلسفة “الكايزن”. ويعتمد تحقيق الميزة التنافسية في المنتج، حسب هذه الفلسفة، على التحسين المستمر والمتواصل وإن كان بخطوات صغيرة في مقابل الاعتماد، كما في الفلسفات الغربية، على القفزات الابتكارية التي يمكن أن تأتي ومن الممكن ألا تأتي
ويعتبر دور المؤسسات البحثية في هذه المرحلة على درجة كبيرة من الأهمية في صناعة النهضة. فيجب توجيه الأبحاث العلمية لحل المشكلات التقنية وتحقيق الميزة التنافسية للمنتجات المحلية. ولقد لاحظتُ ذلك وعاينته بشكل مباشر خلال دراستي للدكتوراة في الولايات المتحدة الأمريكية وخلال إقامتي البحثية في ألمانيا. فلقد كانت الأبحاث العلمية نابعة من مشكلات حقيقة لدى الشركات المصنعة في كلتا البلدين. وتبرز هنا مشكلة من نوع آخر، يقع فيها معظم الباحثين العرب، وهي الاستمرار في نفس مسارهم في البحث العلمي بعد انتهائهم من الدراسة في الخارج وعودتهم الى بلادهم. ونكون هكذا مازلنا في دائرة تطوير منتجات الدول الأخرى
المرحلة الرابعة
دمج المنتجات الصغيرة لتصنيع منتجات أكثر تعقيداً. يتم في هذه المرحلة الانتقال التدريجي من الصناعات الصغيرة والمتوسطة الى الصناعات الكبيرة وذلك بفضل الخبرات التقنية والمنتجات الضرورية التي أصبحت الآن متوفرة محلياً. وتتجلى عملية الانتقال من الصناعات الصغيرة والمتوسطة الى الصناعات الثقيلة بصورة واضحة في التجربة الصينية. حيث يقول الصينيون “إننا مثل التلميذ في الامتحان، من الأفضل أن يبدأ بإجابة الأسئلة السهلة ثم ينتقل للأصعب فالأصعب، بدلا من أن يبدأ بالأسئلة الصعبة فيتعثر فيها ويضيع وقته ويسلم ورقة إجابة الامتحان فارغة” وذلك وفقاً لمقال للدكتورة عيده محمد أحمد بعنوان “قراءة في عظمة التجربة الصينية” – مجلة الثقافة العمالية
إن الانتقال الى الصناعات الكبيرة أو الثقيلة سوف يخلق حاجة الى المزيد من المنتجات المحلية مما سيعود بنا الى المرحلة الأولى، فتغلق الدائرة ويصبح لدينا حركة مستمرة باتجاه النهضة الصناعية. ولن تكون إلا مسألة وقت ونصل الى الحدود التكنولوجية التي وصل إليها غيرنا. وعندها سنصل مرادنا وسنصبح في عداد الدول المصنعة. بل وسيصبح لدينا القدرة على المبادرة وإيجاد حدود جديدة للتكنولوجيا لتأخذنا الى أعماق المحيطات وتحملنا الى الكواكب البعيدة. فنحن أمة اقرأ وأمة الأخذ بالأسباب
فراس جرار
بتاريخ 15 من ذي الحجة 1441
الموافق 5 آب 2020
موضوع رائع وحساس وذو قيمة خاصة لو تم تطبيق تلك التجربة في الوطن العربي لتوفر المواد الأولية اللازمة للإنتاج وغيرها من المقومات الصناعية الأخرى
ولاستمرار جودة المنتج فقد فقد ذكرت فكرة ونظرية الكايزن اي التحسين والتي لاتنتهي صعودا في التحسين وتلك النظرية مطبقة في رياضة الكاراتيه حديثا ونادى بها الاسطورة الراحل كانازاوا
وفقك الله لمزيد من تلك الموضوع الرائعة وارجوا ان تكتب نسخة عنها باللغة الانكليزية لإتمام الفائدة
تحياتي
LikeLike
الموضوع مهم والطرح جدي جدا والدكتور فراس واثق ان لبلادنا العربيه الحريه بتصنيع ما تريد باي وقت تريد. هناك من يقول ان امر بلادنا العربيه ليس بيدها. حتى ان هناك من يقول ان بعض البلدان العربيه لا تستطيع ان تزرع ماتريد. اتمنى ان اكون متفائلا مثلك يا صديقي.
اشكرك على انتماءك واهتمامك بنهضه امتنا.
LikeLike
مقال جميل كما عودتنا دكتور فراس الفاضل ، كل الدول بعلمائها لا ينكرون مبدا هذا الكلام لكن برايي المتواضع وهو بالطبع راي تلميذ بسيط ان الدول العربيه تعاني من مشكلة بالاساس هي التنفيذ ويليها من قبل التخطيط، فعلى سبيل المثال هناك العديد من المشاريع الصناعيه التطويرية اللي خطط لها ووضع ميزانية لها لكن للاسف كان تنفيذها غير مكتمل لاسباب منها الفساد وهنا نعود لنقول ان بداية اي حضارة صناعيه او ثورة هو التربية والتنظيم ومن ثم ياتي التخطيط والتنفيذ
LikeLike
احسنت بصياغة عنوان المقال والذي يلفت انتباه المهتم بالنهضة الصناعية بموطنه
تجزئة الموضوع الى اربعة عناوين توضح فيها معالم الطريق ساعد على تتبع المقال لآخره
نعم انا أؤمن بوجود الكفاءات بأوطاننا وما ينقصنا هنا هو استغلالها بالشكل الصحيح وتوجيهها وفق معايير محددة تعمل باتجاه تحقيق النهضة الصناعية كهدف ورؤية للتنمية المجتمعية وأوافقك الرأي من مبدأ (ابدأ من حيث انتهى الآخرون(
وفقك الله صديقي
LikeLike
رائع ولتحقيق ذلك هنالك حاجه للانتماء للوطن الذي يتلاشى من جيل لجيل والتخلص من
الفساد
LikeLike
بارك الله فيك دكتور
مقال رائع واتمنى ان يصل الى اصحاب القرار في بلادنا
LikeLike
مقالة جديدة بالقراءة. اضيف الى ما ذكر اهمية
الارتقاء بنوعية التعليم وربط التعليم الجامعي بالقطاع الصناعي وتهيئة البيئة المناسبة لتشجيع الصناعات والمشاريع الصغيرة.
LikeLike
رائع د.فراس , أتمنى لك التوفيق وأن تستفيد الشركات الصناعية من خبراتك
LikeLike